فصل: تفسير الآية رقم (172):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال ابن عادل:
قوله: {إلاَّ الحَقَّ} هذا استثناء مُفَرَّغٌ، وفي نصبه وجهان:
أحدهما: أنه مفعول به؛ لأنه تضمَّن معنى القول؛ نحو: قُلْتُ خُطْبَةً.
والثاني: أنه نعتُ مصدر محذوف، أي: إلا القولَ الحَقَّ، وهو قريب في المعنى من الأوَّل.
قوله [سبحانه]: {إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله}.
قرأ جعفر بن محمَّد: المِسِّيح بوزن السِّكِّيت؛ كأنه جعله مثال مبالغة؛ نحو: شِرِّيب العَسَل، والمسيح مبتدأ بعد إنَّ المكفوفة، وعِيسَى بدلٌ منه، أو عطف بيان، وابنُ مَرْيَمَ صفته ورَسُولُ الله خبر المبتدأ، وكَلِمَتُهُ عطف عليه.
وألْقَاها جملةٌ ماضية في موضع الحال، وقَدْ معها مقدرةٌ، وفي عاملِ الحال ثلاثةُ أوجه نَقَلها أبو البقاء:
أحدها: أنه معنى كَلِمة؛ لأنَّ معنى وصْفِ عيسى بالكلمة: المُكَوَّنُ بالكلمة من غير أبٍ، فكأنه قال: وَمَنْشَؤُهُ ومُبْتَدَعُهُ.
والثاني: أن يكون التقدير: إذ كان ألقاها، فإذْ ظرفُ زمانٍ مستقبل، وكان تامَّة، وفاعلها ضمير الله تعالى، وألقاها حالٌ من ذلك الفاعل، وهو كقولهم: ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا.
والثالث: أن يكون حالًا من الهاء المجرورة، والعاملُ فيها معنى الإضافة، تقديره: وكلمةُ اللَّهِ مُلْقيًا إيَّاهاَ. انتهى.
أمَّا جعله العامل معنى كلمة فصحيحٌ، لكنه لم يبين في هذا الوجه من هو صاحبُ الحال؟ وصاحبُ الحال الضميرُ المستتر في كَلِمَتُهُ العائدُ على عيسى؛ لما تضمَّنَتْهُ من معنى المشتقِّ؛ نحو: مُنْشَأ ومُبْتَدَع، وأمَّا جعلُهُ العاملَ معنى الإضافة، فشيءٌ ضعيفٌ، ذهب إليه بعض النحويِّين، وأمَّا تقديرُه الآية بمثل ضَرْبِي زَيْدًا قَائِمًا، ففاسدٌ من حيث المعنى، والله أعلم.
قوله تعالى: {وَرُوحٌ} عطفٌ على كَلِمَة، ومِنْهُ صفة لرُوح، ومِنْ لابتداء الغاية مجازًا، وليست تبعيضيَّةً، ومن غريب ما يحكى أن بعض النصارى ناظَرَ عليَّ بْنَ الحُسَيْنِ بن واقدٍ المَرْوزِيَّ، وقال: في كتاب الله ما يَشهدُ أنَّ عيسى جُزْءٌ مِنَ الله، وتلا: {وَرُوحٌ مِنْهُ}، فعارضه ابنُ واقدٍ بقوله تعالى: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعًا مِّنْهُ} [الجاثية: 13]، وقال: يلزمُ أنْ تكونَ تلك الأشياءُ جزءًا من الله تعالى، وهو محالٌ بالاتفاقِ، فانقطع النصرانيُّ وأسْلم.
قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ}، أي: لا تَقُولُوا آلهتُنَا ثلاثة، فـ {ثَلاَثةٌ} خبر مبتدأ مضمرٍ، والجملةُ من هذا المبتدأ والخبر في محلِّ نصب بالقول، أي: ولا تقولوا: آلهتنا ثلاثةٌ قال الزَّجاج: ويدلُّ عليه قوله بعد ذلك: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ}، وقيل: تقديره: الأقَانِيمُ ثلاثةٌ، أو المعبودُ ثلاثةٌ، وقال الفارسيُّ: تقديره: الله ثالثُ ثلاثةٍ، ثم حُذف المضافُ، وأقيمَ المضافُ إليه مقامَهُ، يريدُ بذلك موافقةَ قوله: {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ} [المائدة: 73].
قال الفرَّاء: تقديره: ولا تقُولُوا هم ثلاثة؛ كقوله: {سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ} [الكهف: 22] وكانت النَّصارى يقُولُون: أبٌ، وابنٌ، ورُوحُ القُدس.
وقوله- عز وجل-: {انتهوا خَيْرًا لَّكُمْ} نصب خيْرًا لِنَصْبه فيما تقدَّم في جَمِيع وُجُوهِهِ، ونِسْبته إلى قَائِلِيه، ثم أكَّدَ التَّوْحِيد بقوله: {إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ} ثم نزَّه نَفْسَه عن الولد بقوله: {سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} وتقدِيرُه: من أنْ يكُونَ، أو: عن أنْ يكُون؛ لأنَّ مَعْنى: سُبْحَان: التَّنْزِيه: فكأنَّهُ قيل: نَزِّهُوه عن أن يكُون، أو مِنْ أنْ يكُونَ لَهُ ولد، فيجيء في مَحَلِّ أنْ الوجهان المَشْهُورَانِ، وقد تقدَّمَتْ دَلاَئِل تَنْزيه اللَّه عن الوَلَدِ في سُورَة آل عمران وواحدٌ نعت على سبيل التوكيد، وظاهر كلام مكي أنه نعتٌ لا على سبيل التوكيد، فإنه قال: والله مبتدأ، وإلهٌ خبره، وواحدٌ نعت، تقديره: إنَّمَا الله مُنْفَرِد في إلهيَّتِهِ، وقيل: وَاحِدٌ تأكيدٌ بمنزلة {لاَ تَتَّخِذُواْ إلهين اثنين} [النحل: 51]، ويجوز أن يكون إله بدلًا من الله، ووَاحِدٌ خبره، تقديره: إنَّما المعبُودُ وَاحِدٌ، وقوله: {أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ} تقديم نظيره [في الآية 47 آل عمران].
وقرأ الحسن: أَن يَكُونَ بكسر الهمزة ورفع يكُونُ على أنَّ إنْ نافية، أي: ما يكونُ له ولدٌ، فعلى قراءته يكونُ هذا الكلامُ جملتَيْنِ، وعلى قراءةِ العامة يكون جملة واحدة. اهـ. باختصار.

.تفسير الآية رقم (172):

قوله تعالى: {لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان الوكيل من يقوم مقام الموكل، ويفعل ما يعجز عنه الموكل، وكان الله تعالى لا يعجزه شيء، ولا يحتاج إلى شيء، وكان عيسى عليه الصلاة السلام لا يدّعي القدرة على شيء إلا بالله، وكان يحتاج إلى النوم وإلى الأكل والشرب وإلى ما يستلزمانه، صح أنه عبدالله فقال سبحانه دالًا على ذلك: {لن يستنكف} أي يطلب ويريد أن يمتنع ويأبى ويستحي ويأنف ويستكبر {المسيح} أي الذي ادعوا فيه الإلهية، وأنفوا له من العبودية لكونه خلق من غير ذكر، ولكونه أيضًا يخبر ببعض المغيبات، ويحيي بعض الأموات، ويأتي بخوارق العادات {أن} أي من أن {يكون عبدًا لله} أي الملك الأعظم الذي عيسى عليه الصلاة والسلام من جملة مخلوقاته، فإنه من جنس البشر في الجملة وإن كان خلقه خارقًا لعادة البشر {ولا الملائكة} أي الذين هم أعجب خلقًا منه في كونهم ليسوا من ذكر ولا أنثى ولا ما يجانس عنصر البشر، فكانوا لذلك أعجب خلقًا من آدم عليه الصلاة والسلام أيضًا، وهم لا يستنكفون بذلك عن أن يكونوا عباد الله.
ولما كان التقريب مقتضيًا في الأغلب للاستحقاق، وكان صفة عامة للملائكة قال: {المقربون} أي الذين هم في حضرة القدس، فهم أجدر بعلم المغيبات وإظهار الكرامات، وجبرئيل الذي هو أحدهم كان سببًا في حياة عيسى عليه الصلاة والسلام، وقد ادعى بعض الناس فيهم الإلهية أيضًا، وبهذا طاح استدلال المعتزلة بهذه الآية على أفضلية الملك على البشر بأن العادة في مثل هذا السياق الترقي من الأدنى إلى الأعلى بعد تسليم مدعاهم، لكن في الخلق لا في المخلوق.
ولما أخبر تعالى عن خلّص عباده بالتشرف بعبوديته أخبر عمن يأبى ذلك، فقال مهددًا محذرًا موعدًا: {ومن يستنكف} أي من الموجودات كلهم {عن عبادته} ولما كان الاستنكاف قد يكون بمعنى مجرد الامتناع لا كبرًا، قال مبينًا للمراد من معناه هنا: {ويستكبر} أي يطلب الكبر عن ذلك ويوجده، لأن مجرد الامتناع لا يستلزمه.
ولما كان الحشر عامًا للمستكبر وغيره كان الضمير في {فسيحشرهم} عائدًا على العباد المشار إليهم بعبدًا وعبادته، ولا يستحسن عوده على مَنْ لأن التفصيل يأباه، والتقدير حينئذ: فسيذلهم لأنه سيحشر العباد {إليه جميعًا} أي المستكبرين وغيرهم بوعد لا خلف فيه لأن الكل يموتون، ومن مات كان مخلوقًا محدثًا قطعًا، ومن كان مقدورًا على ابتدائه وإفنائه كانت القدرة على إعادته أولى، والحشر: الجمع بكره. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

قال الزجاج: لن يستنكف أي لن يأنف، وأصله في اللغة من نكفت الدمع إذا نحيته بأصبعك عن خدك، فتأويل {لَّن يَسْتَنكِفَ} أي لن يتنغص ولم يمنع، وقال الأزهري: سمعت المنذري يقول: سمعت أبا العباس وقد سئل عن الاستنكاف فقال: هو من النكف، يقال ما عليه في هذا الأمر من نكف ولا كف، والنكف أن يقال له سوء، واستنكف إذا دفع ذلك السوء عنه. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ}
استئناف واقع موقع تحقيق جملة {له ما في السماوات وما في الأرض} [النساء: 171] أو موقع الاستدلال على ما تضمّنته جملة {سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 171].
والاستنكاف: التكبّر والامتناع بأنفة، فهو أشد من الاستكبار، ونفي استنكاف المسيح: إمّا إخبار عن اعتراف عيسى بأنّه عبد الله، وإمّا احتجاج على النّصارى بما يوجد في أناجيلهم.
قال الله تعالى حكاية عنه: {قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب} [مريم: 30] إلخ.
وفي نصوص الإنجيل كثير ممّا يدلّ على أنّ المسيح عبد الله وأنّ الله إلهُه وربّه، كما في مجادلته مع إبليس، فقد قال له المسيح للربّ إلهك تسجد وإيّاه وحده تعبد.
وعُدل عن طريق الإضافة في قوله: {عبدًا لِلّه} فأظهر الحرف الّذي تقدّر الإضافة عليه: لأنّ التنكير هنا أظهر في العبودية، أي عبدًا من جملة العبيد، ولو قال: عبدَ اللّهِ لأوهمت الإضافة أنّه العبد الخِصّيص، أو أنّ ذلك علَم له.
وأمّا ما حكى الله عن عيسى عليه السلام في قوله: {قال إنّي عبد الله آتاني الكتاب} [مريم: 30] فلأنّه لم يكن في مقام خطاب من ادّعوا له الإلهية.
وعطف الملائكة على المسيح مع أنّه لم يتقدّم ذِكْر لمزاعم المشركين بأنّ الملائكة بنات الله حتّى يتعرّض لردّ ذلك، إدماج لقصد استقصاء كلّ من ادعيت له بنوة الله، ليشمله الخبر بنفي استنكافه عن أن يكون عبدًا لله، إذ قد تقدّم قبله قوله: {سبحانه أن يكون له ولد} [النساء: 171]، وقد قالت العرب: إنّ الملائكة بنات الله من نساء الجنّ، ولأنَّه قد تقدّم أيضًا قوله: {له ما في السماوات وما في الأرض} [النساء: 171]، ومِنْ أفضل ما في السماوات الملائكة، فذكروا هنا للدلالة على اعترافهم بالعبوديّة.
وإن جعلتَ قوله: {لن يستنكف المسيح} استدلالًا على ما تضمّنه قوله: {سبحانَه أن يكون له ولد} [النساء: 171] كان عطف {ولا الملائكة المقرّبون} محتمِلًا للتتميم كقوله: {الرحمن الرحيم} [الفاتحة: 3] فلا دلالة فيه على تفضيل الملائكة على المسيح، ولا على العكس؛ ومحتملًا للترقّي إلى ما هو الأولى بعكس الحكم في أوهام المخاطبين، وإلى هذا الأخير مال صاحب الكشاف ومثله بقوله تعالى: {ولن ترضى عنك اليهود ولا النّصارى حّتى تتّبع ملّتهم} [البقرة: 120] وجعل، الآية دليلًا على أنّ الملائكة أفضل من المسيح، وهو قول المعتزلة بتفضيل الملائكة على الأنبياء، وزعم أنّ علم المعاني لا يقتضي غير ذلك، وهو تضييق لواسع، فإنّ الكلام محتمل لوجوه، كما علمت، فلا ينهض به الاستدلال. اهـ.

.قال الفخر:

روي أن وفد نجران قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: لم تعيب صاحبنا قال: ومن صاحبكم؟ قالوا عيسى، قال: وأي شيء قلت؟ قالوا تقول إنه عبد الله ورسوله، قال إنه: ليس بعار أن يكون عبد الله، فنزلت هذه الآية، وأنا أقول: إنه تعالى لما أقام الحجة القاطعة على أن عيسى عبد الله، ولا يجوز أن يكون ابنًا له أشار بعده إلى حكاية شبهتهم وأجاب عنها، وذلك لأن الشبهة التي عليها يعولون في إثبات أنه ابن الله هو أنه كان يخبر عن المغيبات وكان يأتي بخوارق العادات من الإحياء والإبراء، فكأنه تعالى قال: {لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح} بسبب هذا القدر من العلم والقدرة عن عبادة الله تعالى فإن الملائكة المقربين أعلى حالًا منه في العلم بالمغيبات لأنهم مطلعون على اللوح المحفوظ، وأعلى حالًا منه في القدرة لأن ثمانية منهم حملوا العرش على عظمته، ثم إن الملائكة مع كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يستنكفوا عن عبودية الله، فكيف يستنكف المسيح عن عبوديته بسبب هذا القدر القليل الذي كان معه من العلم والقدرة، وإذا حملنا الآية على ما ذكرناه صارت هذه الآيات متناسبة متتابعة ومناظرة شريفة كاملة، فكان حمل الآية على هذا الوجه أولى. اهـ.